خَنساءٌ القلعة تَبكي أخاها الشهيد بقلم جمهور كركوكلى
خَنساءٌ القلعة تَبكي أخاها الشهيد
بقلم جمهور كركوكلى
صباح السبت الفائت ، وانا اقف على قبر الشهيد عثمان خضر الذي كان اول شهيد يلقى مصرعه على ايد القتلة الغوغاء في احداث 14 تموز سنة 1959 ، جنح بي الخيال بعيدا ، واعادتني الذاكرة ، عشرات السنين الى الوراء ، الى حيث البيت المنكوب ، بيت الشهيد عثمان في قلعة كركوك ، بيت كئيب ، يخيم عليه الحزن ، مثل باقي بيوت المحلة التي كانت مسرحا لاشد احداث الماساة ضراوة ودموية ، وكان ابناؤها اول ، واكثر قرابين المجزرة الوحشية ، التي ما زالت ذكرياتها الاليمة لا تفارق مخيلة من عاش وشهد فصولها الماسوية ، بالرغم من توالي الايام وتعاقب السنين الطويلة على مجرياتها.
في اصيل كل خميس من الاسبوع كانت ( أديبة ) تلتحف عبائتها السوداء وتحث الخطى نحو مقبرة الشهداء ومعها نسوة اخريات ، مثلها متشحات بالسواد ، رزين هن الاخريات ، بفقد اخ ، او زوج ،او قريب .
حين يصل رهط النسوة الى المقبرة ، تنكب ( اديبة ) على قبر اخيها الشهيد عثمان ، ويبدا الفصل الدرامي المعتاد ، عويل .. وصراخ .. ونواح ، يقطع نياط القلب ، ثم تبدأ اديبة ترثي اخاها بصوت حزين اّسر ، وبكلمات تقطر لوعة وحزنا ، تعدد مزاياه ومحاسنه ، وتذكر طيبته وعنفوانه ، كيف لا ، وقد كان عثمان بالنسبة لها ليس اخا شقيقا فحسب ، وانما ابوها وامها ، وسمير ليلها ونديم نهارها ، لا سيما وانها فجعت قبله بموت والديها ، فكان عثمان الذي يحيطها بالحنان والاهتمام ، الخيط الوحيد الذي يربطها بالحياة ، وبمصرعه شهيدا في ذلك اليوم المشؤوم من تموز عام 1959 ، تغير كل شيء جميل في حياتها ،
واسدل الستار على احلامها الوردية ، وهي لم تزل في ميعة الشباب ومُقتبل العٌمر ، وظلت الى وفاتها قبل سنوات ، وحيدة مهضومة ، منزوية ، تقضي ليلها بالبكاء والنحيب على فقد اخيها ، تبكي وتُبكي من حولها ، وشبهها كثيرون بالخنساء العربية ، التي ذاقت هي الأخرى كاس الفراق ، واكتوت بنار فقد اخيها ( صخر ) الذي رثاها بالقول :
قذى بعينكِ امْ بالعينِ عوَّارُ امْ ذرَّفتْ اذْخلتْ منْ اهلهَا الدَّارُ
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ استارُ
تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ
تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا اذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ
لاَ بدَّ منْ ميتة في صرفهَا عبرٌ وَالدَّهرُ في صرفهِ حولٌ وَاطوارُ ...!
ورغم ان خنساء القلعة ، وخنساء العربية ، فجعتا بموت الاب والام والزوج من قبل ، الا ان وقع موت الأخ بالنسبة لكلتيهما ، كان اشد ايلاما ، واقسى تاثيرا من موت الاخرين .
ولا غرابة في ذلك ، فقد قرأت في بعض الكتب ، أن أحد الطغاة أراد عقاب امرأة والسخرية منها وكان قد أسر زوجها وابنها وأخاها، فأعطاها الخيار لتنقذ واحداً من الأسرى لينجو من القتل، فما كان منها إلا أن قالت:
الزوج موجود .. والولد مولود .. والأخ مفقود
أختار أخي ، فأختارت أخاها ....!
ليست هناك تعليقات: