أخـر الأخبــار
Loading...

الكاميرا في قصة" الفنجان الذي رأى" للشاعر والقاص حسن القره غولي بقلم مهند مهدي عبدالله

الكاميرا في قصة

(( الفنجان الذي رأى))

للشاعر والقاص حسن القره غولي بقلم مهند مهدي عبدالله 

القصة بوصفها اقرب الفنون التي يمكن تحويلها الى سيناريو المؤلفة من عناصر واصفة ومقاربة للحدث عن طريق رؤية القاص وتفصيلها على اساس منظور مسبق لكل المدخلات الزمكانية ، داخل اطار واحد.

وللقاص امكانية تحريك كاميرا خاصة به لتتبُع الاحداث مثل ما نرى في السينما، فهنا للسارد دور يقارب الاخراج من حيث بناء المشهد.

وبهذه الطريقة استخدم القره غولي في بداية قصته اقتباسا عن عبد الامير جرص "وأنت منكسرٌ تجرحُ أكثر أيها الزجاج " وكأنه صور لنا لقطة مقربة ( zoom ) وان حُسبت لجرص إلا ان الاقتباس موفق مع متن القصة.

تبدأ القصة بمشهد المطر الذي يهطل في احد مساءات اذار حيث تحريك الكاميرا الى الاعلى لنتمكن من مشاهدة المطر وهو ينزل ، ولو امكن تصويره باللقطة البطيئة ( slow motion ) لاستمتعنا بقدر البطل ( مراد) بهذا الهطول وهو يدخل المقهى.

تتحرك الكاميرا مرة اخرى لتنقل لنا الاحداث التي تلف المكان بعين البطل وهو يلتقط المطر شاعرا " كان المطر خفيفا و لاسعا  يلطّف الهواء و ينعش الشجر" والذي ينتقل بالحدث عموديا كما نرى.

يتبع هذا المشهد دخول الاطار الداخلي للمقهى حيث الرواد الجالسين "وجوه الجالسين يصعب تمييزها من كثرة اللّغط  و الضّحك و الدّخان" وبهذا اخذ لقطة بانورامية لكل المقهى قبل ان ينتهي بالجلوس الى مقعده.

اعتمد السارد مقاربة اخرى حين قارن بين الزمان والمكان والحدث عن طريق الاغنية وهو هنا استخدم حاسة السمع لتأكيد الحدث اكثر وربطه بالمتن ، اسقاط الفنجان واغنية عبدالحليم بالمقطع " الحب عليك هو المكتوب .. يا ولدي" وهو الذي ينقل البطل بذاكرته الى حبيبته ياسمين.

ان حركة الكاميرا اساسية في تصوير اي مخرج لفلمه الذي سيخرج بصيغته النهائية، وبما ان القصة نوعا ما هي سيناريو يعبر به السارد عن فكرته ويُحسب له ذكاؤه في تقليد العمل الإخراجي في تحريك عدة كاميرات في ان واحد لينقل لنا الحدث بكل تفاصيله.

البناء السردي الذي اعتمده القاص هنا يضج بلقطات غنية بموجودات وتفاصيل لا يمكن التغاضي عنها كفلم او مشهد منه.

تقترب الكاميرا هذه المرة مسلطةً من فوق وهي تصور لنا جلوس ( مراد) الى منضدته واستخدام التجسيد ( personification ) بأن يعطي الحياة للفنجان بصفة صوت سارد ثان في القصة، والذي يحدثنا عن فلسفته تجاه البشرية متخذا  السارد من الاستعارة التشبهية ( metaphor )  غطاءً لإيصال فكرة القاص.

تنقلنا اللقطة المصورة الى الدهشة وهو ما يحتاج الى تقريب بين وجه البطل والفنجان حين يكتشف ان الصوت المحاكي ينبع من الاخر.

اما في مقطع اخر يقول الفنجان "أنا ابن الانكسار الدّائم بين الأرجل و الطاولات , لم تكن تلك مشكلتي , و لم يكن هذا سبب حديثي معك الأمر الوحيد الذي يضايقني هو زعمكم بأني فارغٌ و قابلٌ للانكسار , نعم أنا فارغٌ حدّ الطفح بانكساراتكم الغبيّة." وهذا ما يجعل الفنجان يتغلغل بمعرفته الفلسفية الى الداخل البشري والذي ينظر الى اي فنجان او كوب على انه مجرد اداة فارغة ، الاستعارة التي اعتمدها القاص ترتبط باللقطة التي تصورها الكاميرا من فوق رأس (مراد) ليرينا الفنجان الذي يتحدث فارغا بعدما انهى مراد شربه له.

يعتمد الفنجان فلسفة منقولة عن السارد ( الفلسفة الفيثاغورية) والتي تعتبر الرقم واحد اساس كل الارقام رابطا اياه بان اصل كل اثنين هو واحد.

يتسلسل السرد فيما بعد ليطلب الفنجان من البطل الاقتراب مما يجبر الكاميرا التصويرية على ترك اللقطة الطويلة والاعتماد على التقريب حتى يصل بين السارد الاول والثاني لينقل لنا من كلامهم في المقطع " اقتربْ مني يا صديقي , اقترب اكثر , فأكثر , افتح عينك الان  و قل لي ماذا ترى ؟  نعم انه البياض , البياض اللامتناهي كأنّه الأبد  و كأنّه العدم , البياض هدوءٌ صاخبٌ جدا و سكينةٌ متحركةٌ جدا . البياض كلّ شيء  أو لا شيءَ ان شِئتَ يا صديقي . توقّف الآن لا تقترب أكثر فقد غرقتَ من أدناك الى أعلاك في فنجان صغير . افتح عينك الان و قل لي ماذا ترى سوى البياض ؟

يحرك القاص من وتيرة المشاهد بأن يعيد البطل الى طفولته من خلال النظر داخل الفنجان " يا الله يا الله ,  ارى صور و مشاهد طفولتي , ارى حارتنا , اطفال الجيران , اراني جالسا على عتبة الدار بقميص مشجّر  , ارى أخي الشهيد , نخلة بيتنا القديم , أرجوحتنا الزرقاء  , أرى الحياة واضحةَ على بساطتها , ياااه أرى كلّ ما هو جميل و مؤلم ."  وهنا هو الصوت السردي الثاني الذي يمثل البطل ، بعد ان تخلى عن صوت السارد العارف في المقطع الأول بعد ان يحدثنا عن مشهد الدخول الى المقهى وينتهي ليكتفي القاص بصوتيين سرديين هما البطل والفنجان ليسردا لنا بقية احداث القصة.

اما في مقطع اخر لا يخلو من تجنيد الغريزة للتعبير عن الفكرة ، حيث يأخذنا الفنجان الى المقطع التالي "اليوم صباحا و أنا على الرفّ , دخلت مقهانا  فاتنةٌ أنيقة , عطرها الرطب و بخار انفاسها  سبقاها في دخول المقهى , وجهها  مستديرٌ قليلا  مبتهجٌ  بخدين شهيين  مبللين برذاذٍ باردٍ ,  أعلاها معتدلٌ  متكئٌ على خاصرة  تكاد تضئ , سيقانُها تميل الى  الامتلاء قليلا ,  ذلك الامتلاء الذي  يضغط عليه الجينز من جهاته الاربع  . الضغط  و الامتلاء يأخذان بالتزايد كلّما صعدنا أعلى, بنطالها كان مزينًا بغصنٍ ذي وريقات حمر و أزهارٍ صفراء , يمتدّ كأفعى من أسفل ركبتها  ليتشعّبَ  على فخذها راسمًا جُنينةً ساحرةَ الحضور.  خطواتها مسامير تضرب خاصرة الارض  , فكلّ خطوةٍ يصاحبها اثران : الاول صوتيّ يرنُّ في اذن المكان و يظل صداه يتردد الى حين  , و الثاني اهتزازيّ يحدث بسبب ردة الفعل , فيرتجّ  لحمُها من الاسفل الى الاعلى , لينتهي ذلك الاهتزاز  بارتجاجٍ  خفيف على نهديها المطوّقين نصفيا  .  كل شيء التفت جهتها , حتى ذلك الفنجان الذي كسرت قلبه قبل قليل" وهذا كله وصف ينم عن تفصيل غريزي بحت وان كان مستعارا عن الفنجان الجماد المتكلم إلا انه مشهد التقط بكاميرة السارد على طريقة اللقطة الواحدة المستمرة مع اول دخول الفتاة ونهاية المقطع ومن منظور مقابل اي لقطة عريضة لمدخل المقهى.

ويستمر هذا التجسيد الغريزي والذي هو احالة الى سطوة وقوة الانثى في التأثير على كل تفاصيل الحياة بهدف لفت انتباه البطل الى قوة الانثى الوجودية والواقعة حتى على الجمادات ، يشد السارد الجامد الفنجان الاخر الانسان الى فلسفة حياتية مهمة تعنى بالأنثى في مجمل القصص التي نقرأ.

هنا نجد تأسيسا مفصلا من قبل السارد في مشاهد سريعة ليلتفت الى الحياة وان خاب ظنه في واحدة ، اي ان الحياة مستمرة على شكل اكثر من انثى يمكن ان تحرك المشاهد الجامدة في الحياة الواقعية.

اما المقطع الاخير ينتهي الى وضع القارئ في موقع البطل الذي يضيق ذرعا بالموجودات والحقائق ليخرج من المقهى ويصاحبنا في لقطة الضياع الشائع بعد كل علاقة غير ناجحة ، يأخذنا الى التيه بان يمثل لنا التفاصيل الدقيقة  للزمان ( الهواء الليلي ) والمكان (سار مراد  عكس وجهته حتى غاب في الزحام و الظلام) ليختتم القره غولي القصة بختام اغنية قارئة الفنجان والتي تمثل زمن حدوث القصة كلها اي ساعة واربع وعشرين دقيقة من اول الدخول الى نهاية الخروج.

يحسب للقاص امكاناته في ادارة الكاميرا القصصية ( السيناسردية) لالتقاط كافة المشاهد المهمة.

وما يحسب عليه في بعض المقاطع هو تخليه عن التأني في السرد واستعجال بعض التفاصيل.

----------------------- 

قصة ( الفنجان الذي رأى ) احد القصص الفائزة في جائزة محمود جنداري للسرد القصصي والذي نُظمت من قبل اتحاد الادباء في نينوى - العراق

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *